وفي مواجهةِ هذا الطوفانِ الصامتِ، يبقى القرآنُ الكريمُ شاهدًا حيًّا على قدرةِ الوحيِ على تحريرِ الوعيِ وتوجيهِ الرغباتِ نحو الاعتدالِ والبركةِ والمعنى.
أوَّلًا: الاستهلاكُ بينَ الحاجةِ والهيمنةِ
يستحيلُ فَهمُ النَّزعة الاستهلاكية المعاصرة بمعزلٍ عن سياقها الحضاري الذي أعاد تعريف الإنسان بوصفه كائنًا استهلاكيًّا قبل أن يكون كائنًا عاقلًا أو أخلاقيًّا. ولقد تطوَّرت هذه النَّزعة في الغرب تدريجيًّا مع صعود الفلسفة المادِّية، التي ترافقت مع الثورة الصناعية، لتتكرَّس لاحقًا في صورة حضارة كاملة تجعل الاستهلاك مرادفًا لمعنى النَّجاح والوجود والهُويَّة.
في الماضي، كان الاستهلاك نشاطًا وظيفيًّا يرتبط بإشباع الحاجة وسدِّ الرَّمق وتأمين معيشة كريمة. وكانت المجتمعات الزِّراعية التقليدية تعرف حدودًا صريحة بين ما هو ضروري وما هو ترف زائد. فقد كان الفائض نادرًا وموسميًّا، وغالبًا ما كانت الثَّقافة الدينية والأعراف المحلِّية تكبح التبذير وتُحافظ على معنى الاكتفاء.
ممَّا يُسهمُ في طمسِ الخصوصيَّاتِ الثَّقافيَّةِ للشُّعوبِ ويؤدِّي إلى تفشِّي النَّزعةِ المادِّيةِ المفرطةِ.
في هذا السِّياقِ، تتنزَّلُ هذه الدِّراسةُ لتعيدَ ضبطَ بَوْصَلةِ الاستهلاكِ وفقَ مقاصدِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ التي تدعو إلى التَّوازنِ، وترشيدِ الإنفاقِ، وتحريرِ الإنسانِ من عبوديَّةِ الشَّهواتِ والمظاهرِ. فهَدْيُ الوحيِ يقدِّمُ منظومةً قيميَّةً بديلةً، تُعلي من شأنِ القناعةِ والاعتدالِ، وتربطُ الفعلَ الاستهلاكيَّ بالأخلاقِ والمسؤوليَّةِ تجاه الفردِ والمجتمعِ والبيئةِ.
ومحاولة استنباطِ سُبلِ علاجِها في ضوءِ علمِ النَّفسِ القرآنيِّ، لمواجهةِ هذه الظَّاهرةِ، والتقليلِ من آثارِها السَّلبيَّةِ في الأفرادِ والمجتمعاتِ. حيث يوجِّهنا القرآنُ إلى تمثُّلِ قيمِ القناعةِ والزُّهدِ والاعتدالِ، ويؤسِّس للرَّقابةِ الذاتيَّةِ والإحساسِ بالمسؤوليَّةِ أمامَ الله، كعلاجٍ لكبحِ سلوكِ الإسرافِ والتَّبذيرِ.
كما تهدفُ الدِّراسةُ إلى تقديمِ تصوُّرٍ إسلاميٍّ متكاملٍ، يربطُ بين علمِ النَّفسِ والجانبِ الرُّوحيِّ، ويعتمدُ على قيمِ القرآنِ، وتوجيهاتِه، لتصحيحِ المفاهيمِ، وتعديلِ السُّلوكِ؛ بغيةَ خلقِ شخصيَّةٍ متوازنةٍ ومتكاملةٍ، قادرةٍ على مقاومةِ إغراءاتِ الاستهلاكِ المُفرطِ، وتحقيقِ رضا النَّفسِ، وطمأنينةِ القلبِ.
وللاستهلاكِ آثارٌ متعدِّدةٌ ومتنوِّعةٌ؛ اقتصاديَّةٌ وسياسيَّةٌ ونفسيَّةٌ لا سيَّما الاجتماعيَّةُ منها على المجتمعِ. من الآثارِ الاجتماعيَّةِ للنَّزعةِ الاستهلاكيَّةِ يمكنُ ذكْرُ تحوُّلِ الثَّروةِ والاستهلاكِ إلى قيمةٍ وهيمنتِها على القيمِ الأخرى، واستعراضِ الثَّروةِ والفجوةِ الطَّبقيَّةِ والتَّفاوتِ الاجتماعيِّ والشُّعورِ بالحرمانِ..إلخ.
يتناولُ هذا المقالُ آثارَ النَّزعةِ الاستهلاكيَّةِ في المجتمعِ مستخدمًا الأسلوبَ الإسناديَّ ومنهجَ تحليلِ المحتوى الوصفيِّ بالمنظورِ الاجتماعيِّ، ثمَّ يدرسُ النَّزعةَ الاستهلاكيَّةَ من منظورِ التَّعاليمِ الإسلاميَّةِ.
وفي القرآنِ الكريمِ، نجدُ مجموعةً منَ الآياتِ تؤسِّس لحالةِ التَّوازنِ الاقتصاديِّ في الحياةِ، من خلالِ ترشيدِ وعيِ الإنسانِ باحتياجاتِه، ومدى اسْتثمارِه لإمكانيَّاتِه وفرصِه الاقتصاديَّةِ، ومحاولةِ تلبيةِ احْتياجاتِه.
في هذا السِّياقِ، يأتي هذا البحثُ ليتناولَ إشكاليَّةَ التَّوازنِ بينَ الاستهلاكِ والإنتاجِ كنشاطٍ بشريٍّ، وفقَ موازينِ السُّننِ الإلهيَّةِ، من خلالِ الإجابةِ على مجموعةٍ من الأسئلةِ المهمَّةِ: أينَ يتجلَّى التَّوازنُ في الفعلِ الإنسانيِّ؟ بين متطلَّباتِ الاستهلاكِ والإنتاجِ، وكيف توجِّهُ القيمُ القرآنيَّةُ الإنسانَ نحو تحقيقِ التَّوازنِ بين عناصرِ الاستهلاكِ في نشاطِه، ومتطلَّبات الإنتاجِ لبناءِ الاقتدارِ الاقتصاديِّ.
وقدْ كانتِ القطيعةُ الغربيَّةُ مع الدِّينِ، هي المرتكزُ الفكريُّ والفلسفيُّ لهذهِ النَّزعةِ الاستهلاكيَّةِ التي ستبرِّر صعودَ الفردانيَّةِ والرِّبحِ، كهدفٍ أسمى، والتعاملَ مع الطَّبيعةِ ومواردِها كهدفٍ للإخضاعِ والسَّيطرةِ والنَّهبِ دونَ أيِّ ضوابطَ، أو قيمٍ أخلاقيَّةٍ أو إنسانيَّةٍ.
في حين نجدُ المنظورَ الدِّينيَّ القرآنيَّ يعدُّ الطَّبيعةَ كائنًا حيًّا، تُسبِّح لله كما الإنسانُ؛ بحيثُ يجبُ على هذا الأخيرِ أنْ ينسجمَ معها، وأنْ يتعاملَ معها بتوازنٍ، وأنْ يدركَ أنَّ مواردَها ليست له وحدَه، بل لباقي الكائناتِ التي خلقها اللهُ سبحانَه وتعالى.
فإنَّها في الوقتِ ذاتِه، لا يُستفادُ منها في مقامِ الاستدلالِ على الحُكمِ الشَّرعيِّ وبيانِ المُرادِ الإلهيِّ؛ لأنَّ الاختلافَ بين القُرَّاءِ وكَثرةِ المؤلَّفاتِ في القراءاتِ، حتَّى بلغتْ أربعَ عشرةَ قراءةً، يدلُّ على كونِها اجتهاداتٍ شخصيَّةً واستحساناتٍ فرديَّةً، تصحُّ عند بعضٍ ولا تصحُّ عند الآخرين.
وكذلك؛ لم تكتسبِ القُدسيَّةَ المطلوبةَ، فهي ليستْ متواترةً بعنوانِها الاصطلاحيِّ عنِ الله تعالى، وعنْ رسولِه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتَّى وصلتْ إلى أصحابِها.
بما يقتضي من الفردِ المسلمِ أنْ يتحرَّكَ في سبيلِ تنظيمِ حياتِه وتدبُّرِ معيشتِه بالاستنادِ إلى قيمِ الدِّينِ ومعاييرِه ومنظومتِه التَّشريعيَّةِ والفكريَّةِ؛ بحيثُ يكونُ كسبُه وتدبيرُه لمختلفِ شؤونِ عيشِه، قائمًا ومبنيًّا على أسسٍ سليمةٍ وصحيحةٍ تُرضي الله تعالى؛ لأنَّ الإيمانَ بالله هو المحرِّكُ الأساسُ والمحورُ الرئيسُ لكلِّ فاعليَّةٍ وجوديَّةٍ وشأنٍ حياتيٍّ خاصٍّ وعامٍّ، يتحرَّك فيه وفي سبيلِه الفردُ، وما لم يرتكزْ (هذا التَّدبُّرُ والنَّظمُ الحياتيُّ) على هذه القاعدةِ الإيمانيَّةِ، سيبقى عملُ الإنسانِ مختلًّا وفاقدًا للرُّوحيَّةِ الإنسانيَّةِ والشَّرعيَّةِ الأخلاقيَّةِ.
messages.addmessages.comment